تركيا تدمّر نفسها سريعاً
في بعض الأحيان الأمر الوحيد الذي يمكن القيام به هو مشاهدة بلد يدمّر نفسه وهذه هي المأساة الحقيقية
فيما أكتب هذه السطور، لا يستطيع المواطنون تنظيم احتجاجات، جرى حجب تويتر، لا يمكن الوصول إلى فايسبوك، وتطبيقات التواصل الاجتماعي مثل واتساب لا تزال محظورة. الحملة ضد وسائل التواصل الاجتماعي خطوة غير ضرورية بتاتاً، فمن الذي سيخرج ويعرّض نفسه لخطر الاعتقال عندما يكون هناك قانون طوارئ وحظر رسمي للتظاهرات؟ الاحتجاجات تحدث في المجتمعات الحرة أو شبه الحرة، أو حين يشعر الناس بأنهم يملكون فرصة للتأثير.
حصل في إحدى المرات أن دفعت احتجاجات حاشدة بالحكومة إلى إعلان سلسلة من الإصلاحات. لكن تركيا لا تزال كما هي. ولم يبق مثل هذا التفاؤل.
إن قصة تركيا تتحول سريعاً إلى ما يشبه الفاجعة للديمقراطية الإسلامية بحيث تجهض أي فرصة تاريخية للتقدم في مهدها، وذلك فقط من أجل إقامة نمط مألوف من الاستبداد في الشرق الأوسط من خلال الخضوع لسلطة شخصية رجعية. قبل عقد من الزمن صفّق العالم لحزب العدالة والتنمية الحاكم بسبب وتيرة الإصلاح وتقدمه نحو عضوية الاتحاد الأوروبي. حتى إنني كتبت بنفسي مشيداً بالديمقراطيين المسلمين الذين بدوا في ذلك الوقت البديل المؤمل به للعلمانية المتشددة و"الكمالية" والإسلام الراديكالي. بعد عقد من الزمن بالكاد تبدو تركيا قادرة على الحفاظ على علاقاتها المتحضرة مع حلفائها الغربيين حيث تشهد تراجعاً سريعاً وأصبحت شوكة في خاصرة أوروبا.
في ظل هذا التراجع التدريجي، شكل ديميرطاش متنفساً وأحد أهم الأمور التي حصلت في السياسة التركية خلال الأعوام القليلة الماضية. يقود المحامي السابق في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ذو الثلاثة والأربعين عاماً ائتلافاً صغيراً من الكرد يضمّ اليساريين والأقليات مع أصوات بالكاد كانت كافية لتخطيه عتبة العشرة بالمئة على المستوى الوطني. لكن ديميرطاش كان فعّالاً من خلال خطابه القوي عن التعددية والديمقراطية كما كان قادراً على إظهار قوة خارج قاعدته. هذه كانت قصة داود وجالوت. ومع عبارة "لن نسمح لك بأن تصبح رئيساً تنفيذياً" الشهيرة التي أطلقها ديميرطاش في خطابه في آذار/ مارس العام الماضي وعقب فوز حزبه في انتخابات حزيران/ يونيو 2015، رفض ديميرطاش التغيير الدستوري الذي يريده أردوغان لنقل كل الصلاحيات إليه.
مع اعتقال ديميرطاش لم يعد هناك من عقبات أمام صعود أردوغان نحو السلطة المطلقة. التقيت ديميرطاش على فنجان شاي قبل أسابيع قليلة في اسطنبول. كان مبتهجاً على نحو استثنائي بالرغم من الشائعات حول اعتقاله المحتمل. سألته عن السبب. فأجاب "علينا أن نكون أقوياء. نحن أقوياء. نحتاج فقط إلى معرفة ذلك. أدركت أخيراً أن العالم يهتم بنا نحن الكرد فقط إذا ظن بأننا أقوياء". سيكون من الصعب على نحو متزايد تحديد مدى اهتمام حلفاء تركيا الغربيين بالديمقراطية التركية بعد الآن. منذ أسابيع قليلة كنت في بروكسل من أجل المشاركة في سلسلة من الاجتماعات حيث بدا الأوروبيون متعبين من تركيا. فهم يئسوا من البلد بعد أن رأوا فيه يوماً ما مرشحاً طامحاً لعضوية الاتحاد.
ويدور النقاش حول الحفاظ على عملية الانضمام الميتة كما هي أو تحويلها إلى نوع من الاتفاق التجاري. لو أن الأوروبيين أبدوا استعداداً للقبول بتركيا خلال سنوات الإصلاح منذ عقد من الزمن ربما ما كنا وصلنا إلى هنا. من يدري؟ من المؤلم التفكير بأمور لم تحصل.
لذلك فإن المرحلة الراهنة في تركيا صعبة على الجميع، كتاباً وصحافيين وأمهات وآباء ومواطنين عاديين. إن الأمر ليس كما لو أن تركيا لم تذق يوماً طعم الديمقراطية. فقد كان لدينا ما يشبه المجتمع الحر والمفتوح. كانت لدينا مؤسسات تتمتع بالضوابط والتوازن، كانت لدينا ساعات مفتوحة من النقاشات التلفزيونية، ونظام متعدد الأحزاب لم تقلل منه سلطة عليا، وشبه قانون (بالرغم من المشاكل) وتظاهرات وتجمعات وآمال، وكانت لدينا على طول الطريق إمكانية التغيير.
كل هذا ذهب الآن. مع اعتقال ديميرطاش والنواب الآخرين، تعود تركيا بالزمن إلى الوراء وإلى أيام التسعينيات القاتمة، يسودها الإرهاب والصراعات الداخلية والاقتصاد المتعثر وانعدام الأمل. ففي عام 1994 اعتقلت مجموعة من النواب الكرد من البرلمان ودخلت البلاد في مرحلة من العنف المتصاعد والقمع.
لا أحد أعرفه يشعر بالسعادة إزاء الانحدار في تركيا، حتى مؤيدي أردوغان أنفسهم. لا تريد للتاريخ أن يعيد نفسه ولا تريد أن تنجر أكثر في دوامة الاستبداد والميليشيات والصراعات العرقية والمذهبية في الشرق الأوسط. لكن من الذي سيوقف هذا المد والجزر ويدافع عن الديمقراطية؟ الزعماء الأتراك لديهم من الأنانية ما يجعلهم غير قادرين على تغيير المسار، المعارضة ضعيفة جداً، المواطنون خائفون كثيراً. لا يوجد أي مرشح للقيام بذلك حتى الآن. هذا هو ما يحصل. في بعض الأحيان الأمر الوحيد الذي يمكن القيام به هو مشاهدة بلد يدمّر نفسه وهذه هي المأساة الحقيقية.