جنون ارتياب نتنياهو
جنون الارتياب لدى نتنياهو مطلق. إنه على قناعة أنه يتم التنصت عليه في كل مكان في العالم، على مدار الساعة. حتى في منزله الخاص في قيصاريا. وكثيراً ما همس لمحاوره، في فناء منزله في قيصاريا، أنهم "هنا أيضاً يستمعون إلينا". إنه لا يشعر بالأمان في مكتب رئيس الحكومة في القدس، وهو مقتنع بأنه يتم التنصت عليه هناك أيضاً.
في الأسبوع الماضي، قام تامير باردو، الرئيس السابق للموساد، بإلقاء قنبلة في مقابلة أجراها مع برنامج "عوفدا" [حقيقة] على القناة 12.
من كلام باردو أمكن أن نفهم أنه خلال الاستعدادات التي قامت بها (إسرائيل) لأهم عملية أمنية استراتيجية، صدر أمر بتنصت هاتفي على رئيس الأركان، وكان حينها بيني غانتس، وكذلك رئيس الموساد باردو. الأمر صدر، بحسب ما زُعم، من لسان بنيامين نتنياهو، والقضية تسلط الضوء على أزمة الثقة العميقة بين نتنياهو وكبار مسؤولي أجهزته الأمنية على مر السنين.
بمجرد أن تم بث المقابلة، وجد باردو نفسه في المسلخ الثابت الذي ينتظر أي مسؤول أمني يتحدى نتنياهو. في البداية، يسخّفون نفس وجود المقابلة، وينكرون ما قيل فيها، ثم ينتقلون لتولي أمر الشخص. نتنياهو استغل جملة قالها باردو ممازحا خلال المقابلة من أجل تحقيره وتحويله إلى "عدو الشعب". عندما وصف باردو أنشطة الموساد قال إنه "منظمة جريمة برخصة". هذا ما كان يقوله كبار مسؤولي الموساد عن أنشطتهم منذ أجيال. وهو ينطبق على أي منظمة تجسس في العالم، أينما كانت. رجال الظلّ لا يعملون وفق القانون في أنشطتهم السرية المتشعبة، لكنهم مجازون بفعل هذا من قبل حكومتهم. لذا أخذ نتنياهو هذه الجملة واستخدمها كبومرنغ للهجوم على باردو وإعلان أن "الموساد ليس منظمة جريمة". وكأن باردو كان يعني ذلك ضمناً.
تعود علاقات الارتياب والعداوة بين نتنياهو والجنرالات "الإسرائيليين" إلى ولاية نتنياهو الأولى (1996-1999)، لكن لم يسبق أن وصلت إلى هذا الحضيض أبداً. في العمليات الخاصة، مثل قصف المفاعل النووي السوري في دير الزور في عام 2007، من المعتاد فحص كبار المسؤولين، وأحياناً مسؤولين منتخبين من الشعب، بواسطة جهاز كشف الكذب، من أجل الردع.
حتى الآن، لم يتم تضمين التنصت على رؤساء الأجهزة في التدابير التي اتخذها النظام ضد كبار مسؤوليه. لكن نتنياهو ليس لديه سقف لجنون الارتياب، وليس هناك خط أحمر في كل ما يتصل بالثقة الأساسية التي يفترض أن تسود بينه وبين الأشخاص المسؤولين عن أمن (إسرائيل).
نتنياهو نفسه نفى كلام باردو. بعد تعرضه لضغوط شديدة، أصدر من كان حينها رئيساً للشاباك، يورام كوهين، الذي كان من المفترض أن ينفذ عمليات التنصت هذه، نفياً كان فيه تأكيد للقصة أكثر من دحضها، قائلاً إن رئيس الحكومة لم يطلب منه التنصت "على وجه التحديد" على رئيس الموساد أو رئيس الأركان. الأمر صحيح. الطلب لم يكن محددا لكنه تضمن قائمة تضم أكثر من مائة من "شركاء السر" في قيادة الأمن (الإسرائيلي)، وضمت أيضاً رئيس الموساد ورئيس الأركان. على فكرة، هذا الأمر لم يُنفّذ أبداً. الشاباك رفض التنصت على هؤلاء المسؤولين، وأُنيطت المهمة بجهاز آخر (ملماب، الجهاز المسؤول عن أمن وزارة الأمن)، لكن الشاباك لم ينقل إلى ملماب الوسائل اللازمة.
ارتياب نتنياهو متأصل فيه طوال مسيرته المهنية. عندما عاد إلى مكتب رئيس الحكومة في سنة 2009 وخاف من تسريبات، طلب إجراء فحص بواسطة جهاز كشف الكذب لجميع أفراد المكتب، بمن فيهم كبار المسؤولين: سكرتير الحكومة؛ المستشار السياسي؛ السكرتير العسكري؛ الناطق باسم المكتب؛ ورئيس المكتب ورئيس الفريق. أحد هؤلاء، البروفيسور عوزي أراد، مستشار الأمن القومي، تطوع ليكون أول من يخضع للفحص، لكنه سأل نتنياهو: "وماذا عنك؟ لماذا لا تُظهر مثالاً شخصياً وتخضع أنت أيضاً لفحص الكذب؟". نتنياهو أزاح هذا الاقتراح عن مكتبه بسرعة.
جنون الارتياب لدى نتنياهو مطلق. إنه على قناعة أنه يتم التنصت عليه في كل مكان في العالم، على مدار الساعة. حتى في منزله الخاص في قيصاريا. وكثيراً ما همس لمحاوره، في فناء منزله في قيصاريا، أنهم "هنا أيضاً يستمعون إلينا". إنه لا يشعر بالأمان في مكتب رئيس الحكومة في القدس، وهو مقتنع بأنه يتم التنصت عليه هناك أيضاً. في الماضي، عندما عقد اجتماعات سرية بوجهٍ خاص، فعل ذلك في مقر الموساد في منطقة تل أبيب. مؤخرًا نقل الجلسات الحساسة للمجلس الوزاري المصغر إلى الحصن الضخم الذي بنته إسرائيل تحت الأرض في القدس، حصن قيادة وسيطرة منيع وقادر أيضًا على الصمود أمام هجوم نووي ذي أبعاد هائلة ومجهز بجميع التطويرات اللازمة لإدارة دولة تتعرض لهجوم. عندما يكون في الولايات المتحدة، نتنياهو على قناعة بأنه يتم التنصت عليه في كل فندق، في البيت الأبيض، وفي "بلير هاوس". أكثر من مرة "يقفز" إلى السفارة (الإسرائيلية)، حيث توجد غرفة معزولة خاصة مضادة للتنصت، وفقط هناك هو مستعد للتشاور مع المسؤولين في مواضيع حساسة فعلاً.
رغم هذه الصفات، من المفترض أن يضع نتنياهو ثقته برؤساء الأجهزة الأمنية. وليس من المفترض به أن يأمر جهاز الأمن العام بالتنصت على هواتفهم. هذا الكلام يُقال أيضاً بسبب حقيقة أن جزءاً كبيراً من التسريبات الأمنية الأكثر حساسية سرّبه نتنياهو نفسه، سواء عن قصد أو عن طريق الخطأ. كزعيم للمعارضة، نتنياهو كاد يكشف حقيقة أن (إسرائيل) هي التي هاجمت المفاعل في سوريا في أكثر اللحظات حساسية بعد الهجوم، (أيلول/سبتمبر 2007)، ولوّح ذات مرة من على منبر الكنيست بأشد وثيقة حساسة أعدّها الجيش "الإسرائيلي "(1995)، وكان متورطاً في أحداث تسريب كثيرة. على الرغم من كل هذا، إنه لا يكف عن الاشتباه بمحيطه باستمرار ولا يثق بأحد.
طوال سنيّه المديدة كرئيس للحكومة، نتنياهو تنازع تقريباً مع كل رؤساء الأجهزة الأمنية ولم يُنهِ أحد عنده تقريبًا عمله بصورة محترمة. في ولايته الأولى، كان رئيس هيئة الأركان الراحل أمنون ليبكين شاحاك، ورئيس الشاباك عامي أيالون، ورئيس الموساد داني ياتوم. في النوبة الحالية، تقريباً كل رؤساء الأجهزة الذين عملوا تحت قيادته انتقدوه أو ينتقدونه بشدة: رئيس الموساد الراحل مئير داغان؛ رئيس الأركان غابي أشكينازي؛ رئيس الشاباك يوفال ديسكين؛ ومن جاء بعدهم، بمن فيهم رئيس الأركان غانتس ورئيس الموساد باردو.
في الماضي خاف نتنياهو من خوض مواجهة علنية مع رئيس جهاز أمني أو رئيس أركان. واحدة من فرضيات العمل الأكثر رسوخاً في السياسة (الإسرائيلية) هي أنه ممنوع تحت أي ظرف من الظروف خوض مواجهة وجهاً لوجه مع شخصية أمنية بارزة على ضوء شعبية كبار المسؤولين الأمنيين وسط الشعب (الإسرائيلي). في العقد الأخير بدأت عملية متدرجة زاحفة غيّرت هذا الواقع 180 درجة. هذه العملية قادها نتنياهو وأدت بنا إلى الوضع الحالي: ممنوع، تحت أي ظرف من الظروف، الدخول في مواجهة علنية مع نتنياهو. لا أحد حصين، لا رئيس أركان، ولا رئيس موساد، ولا رئيس شاباك. نتنياهو هو الحاكم بلا منازع للرأي العام، ولن ينجو أحد من مواجهة علنية معه ومصير كل كبار المسؤولين والضباط العاملين تحت إمرته، أينما كانوا، معروف سلفاً: إذا فتحوا أفواههم، سيُهانون وسيخضعون لعملية عامة من "الوصم بالعار"، وسيُطحنون في طاحونة إعلام نتنياهو، وسينضمون إلى قائمة طويلة من المهزومين الذين سبقوهم.