هدنة صغيرة

توصل الإسرائيليون والفلسطينيون مؤخراً وبوساطة مصرية إلى هدنة بعدما توترت الأوضاع على حدود قطاع غزة، على أن تستمرّ هذه التهدئة لشهور طويلة.

وافقت إسرائيل على تخفيف الحصار الذي تفرضه على قطاع غزة

حوالى منتصف ليلة الثلاثاء - الأربعاء، التي كانت فيها رشقات الصواريخ لا تزال تطلق باتجاه إسرائيل، أعلن المتحدثون باسم حركتَيْ حماس والجهاد الإسلامي أنه قد تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار. إلا أن جهات سياسية وأمنية (إسرائيلية) قد كذّبت ذلك بشكل فوري، وواصل سلاح الجو مهاجمة غزة وكأنه يريد أن يقول من هو صاحب الكلمة الأخيرة. إلا أن هذه التكذيبات لم تعبّر عن الحقيقة في لحظتها. فعندها كان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، بالإضافة إلى وزراء المجلس الوزاري المصغر، يعرفون الحقيقة.

وواصل المجلس الوزاري المصغر تكذيب ذلك يوم الأربعاء، في الوقت الذي كان فيه واضحاً للجميع أن الهدوء قد ساد. صحيح أنه لم يتم التوقيع على اتفاق رسمي لوقف إطلاق النار إلا أنه تم التوصل إلى تفاهمات واضحة. في الإنكليزية هناك كلمة مناسبة هي tacit / ضمني، إلا أن القلّة القليلة هي من يستخدمها في العبري. والإشاعات تقول إن هناك اتفاقاً وتفاهمات بين الأطراف إلا أنهم لا يعلنون عنها. هكذا تتصرف الحكومة الإسرائيلية. فهي توافق على، وتقبل، وقف إطلاق النار إلا أنها تخشى أن تعلن عن ذلك بالفم الملآن لاعتبارات داخلية، حتى لا يتم تفسير ذلك، وبخاصة من قبل جمهور مؤيديها، على أنه ضعف وخنوع.

هذه التفاهمات تمت بلورتها من قبل ممثلي المخابرات المصرية الذين التقوا مع ممثلي حركة حماس، وتحدثوا عبر الهاتف مع ممثلي إسرائيل – الجيش الإسرائيلي والموساد والشاباك ووزارة الأمن، وإسرائيل قد راكمت خبرة كبيرة في إدارة الاتصالات والمحادثات مع حركة حماس. هكذا تم في القاهرة تحقيق اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى عملية "الجرف الصامد" في صيف 2014. فممثلو إسرائيل كانوا يجلسون في غرفهم في أحد الطوابق، وكان ممثلو المخابرات المصرية يقومون بدور الوساطة، وفي الطابق الذي تحته كان يجلس مسؤولون كبار من حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وعلى نحو مشابه، من خلال تبادل الرسائل بين الوسطاء المصريين والقطريين والأوربيين، تم التوصل إلى صفقة غلعاد شاليط عام 2011. 

هذا ولا يتحدث اتفاق التفاهمات فقط عن العودة إلى اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في 2014 بل يتحدث عن خطة لتعزيز التهدئة بحيث تستمر لشهور طويلة. ومن أجل ذلك وافقت إسرائيل على تخفيف الحصار الذي تفرضه على قطاع غزة. والحديث يدور هنا عن خطوة تكتيكية. وفي الأسبوع القادم، أو خلال أسبوعين، سيتم عقد اجتماع للمجلس الوزاري المصغر حيث ستقدَّم فيه توصيات للأجهزة الأمنية للقيام بسلسلة من الخطوات التي تهدف إلى تخفيف الضائقة الاقتصادية لمواطني غزة البالغ عددهم نحو مليوني نسمة، حيث سيتم إدخال كميات أكبر من البضائع، والأدوية، ومولدات الكهرباء التي سيكون بإمكانها رفع كمية الكهرباء في القطاع، والشروع بتنفيذ مشاريع للبنى التحتية. وربما يتم أيضاً السماح بدخول عدد صغير من عمال قطاع غزة للعمل في إسرائيل.

ومن الممكن أن نسمي ذلك "هدنة صغيرة". فحركة حماس وإسرائيل، غير الراغبتين في الحرب، كل لأسبابها، تدركان أنه من الأفضل الاكتفاء بها في مقابل عدم التوصل إلى أي شيء. فإسرائيل لا تريد الدخول في حرب بسبب الثمن الدامي الذي ستدفعه. وحركة حماس تخشاها لأن قادة الحركة يعرفون بأنهم سيكونون شخصياً أهدافاً في الحرب القادمة، وأن هدفها سيكون إسقاط حكمهم.

 لقد كان الجانبان يرغبان في التوصل إلى "هدنة كبيرة" تستمر لعدة سنوات إلا أن الفجوات بين المواقف كبيرة جداً ومن غير الممكن الجَسْر فوقها. فإسرائيل لا تستطيع إجراء مفاوضات مباشرة مع حماس لأنها ترى فيها حركة إرهابية لا تعترف بحقها في الوجود، على الرغم من أن حركة حماس هي حكومة بكل ما في الكلمة من معنى، وتمتلك جيشاً يبلغ تعداده حوالي 40 ألف مقاتل وحامل للسلاح. وإسرائيل غير مستعدة للبدء بإعادة إعمار استراتيجية للقطاع بقيمة مليارات الدولارات، تتضمن إنشاء جزيرة - ميناء، مطار، محطة كهرباء ومنشأة لتحلية مياه البحر.. إلى آخر ما هنالك (لا توجد هناك مشكلة في الحصول على الأموال من الدول العربية والمجتمع الدولي)، طالما أن حماس غير مستعدة للتخلي عن سلاحها. وحماس لن توافق على ذلك أبداً. فهي، بدون الجيش الذي تمتلكه والنضال العنيف ضد إسرائيل، ستفقد جوهرها. وهي ستخسر حقها في الوجود، على النحو الذي ترى هي نفسها وفقه.

وهناك عقبة أخرى في الطريق إلى الهدنة الكبيرة، وهي قضية الأسرى والمفقودين. فالحكومة الإسرائيلية تسعى إلى تحقيق صفقة تعيد جثث هادار غولدن وأورون شاؤول، والمواطنَين المعتقلين في غزة ابرا مانغستو وهشام السيد. إلا أن الثمن الذي تريد دفعه مقابل ذلك هو متدنٍ جداً: إعادة عدد من جثامين الفلسطينيين وبضع عشرات من الأسرى غير الملطخة أيديهم بالدماء. ويواصل يارون بروم، المكلف بالإشراف على هذا الموضوع من قبل رئيس الحكومة، يواصل بذل جهوده – بشكل خاص بمساعدة عناصر المخابرات المصرية والقطرية - إلا أن الفجوات هائلة. فطلبات الحد الأدنى الخاصة بحماس أكبر بعشرة أضعاف من الحد الأعلى الذي أبدت إسرائيل استعدادها لتقديمه.

وبذلك، وبعد جولة الكباش التي حصلت هذا الأسبوع – كان هذا هو يوم المعارك الأكبر منذ عملية "الجرف الصامد" (تم في يوم واحد إطلاق عدد من الصواريخ وقذائف الهاون يفوق ما تم إطلاقه خلال الشهور الـ 46 الأخيرة) - فإنه من المريح للطرفين العودة إلى الوضع الروتيني. فكل واحد من الطرفين يشعر أنه قد "حرق وعي" الطرف الآخر وأخرج من خصمه - حسب اعتقاد كل منهما، الرغبة في الحرب. وبالنسبة لإسرائيل من الأفضل أن يكون هناك عنوان (مسؤول) في غزة شريطة أن تكون حماس ضعيفة. وبوسع حركة حماس أن تقول الأمر نفسه: لقد أثبتُ مرة أخرى أنني السيد الحاكم، وصاحب المبادرة الذي يملي على إسرائيل ارتفاع أعمدة اللهب.

ترجمة: مرعي حطيني